لفت موضوع اليهود في سورية نظر الباحثين منذ زمن بعيد، وعلى سبيل المثال، فإن الرحالة الفرنسي لوران دارفيو الذي زار دمشق خلال رحلته الكبرى إلى الشرق الأدنى عام 1660
ـ وما بعد ـ كتب عن قرية جوبر ـ أضحت مدينة الآن: (تقع قرية جوبر على بُعد نصف فرسخ من دمشق، ولا يسكنها إلا اليهود دون أي اختلاط بقوم آخرين.
ولديهم هناك مغارة يقولون إن النبي الياس اختبأ فيها عند هروبه من اضطهاد (إيزابل)، وهذه المغارة موجودة داخل كنيس أثري ما زال قائماً هناك).. اللافت للنظر أن أحداً من هؤلاء اليهود لم يبق في جوبر منذ سنوات بعيدة، فكل سكانها الآن هم من المسلمين.
وفي هذا السياق صدر كتاب الباحث سمير عبده "اليهود السوريون"، وهو يشير منذ البداية إلى أنهم كانوا يشكلون ثالث طائفة في سورية بعد المسلمين والمسيحيين. وأقاموا في دمشق وحلب والقامشلي، وقدر عددهم في سورية عامة بستة وعشرين ألفاً ومائتين وخمسين، عام 1932، وارتفع هذا العدد بعد أقل من عشر سنوات عام 1943، حتى تسعة وعشرين ألفاً وسبعمائة وسبعين يهودياً، ثم ارتفع هذا الرقم عام 1956، أي أيام الحياة النيابية في سورية وبرلمان 1954 ـ 1958، حتى بلغ عدد يهود سورية اثنين وثلاثين ألفاً وأربعة وثلاثين شخصاً، أقام منهم في دمشق 14601 نسمة، وفي ريف دمشق ثمانية آلاف، وفي حلب 14871 نسمة، وتلي مدينة القامشلي في الترتيب، إذ بلغ عدد اليهود فيها 2478 نسمة، وفي دير الزور 60 نسمة، وفي درعا 10 أشخاص.
وسكن اليهود في دمشق، غير بعيد عن المناطق التي أقام فيها المسيحيون، إلى الجنوب الشرقي، وإلى الشرق من هذه المدينة. وإذا كان الحي اليهودي بكامله واقعاً ضمن سور دمشق التاريخي، فإن كثيراً من بيوت المسيحيين كانت خارجه (القصاع مثلا).
وشهد القرن التاسع عشر نهضة عمرانية لبيوت اليهود في دمشق، من أشهرها قصر يوسف افندي عنبر في حي مئذنة الشحم، وكان هو الثاني من حيث المساحة والأناقة بعد قصر العظم، وظل يعرف حتى الآن بمكتب عنبر.
وكانت الدولة العثمانية وضعت يدها عليه، نظراً لعجز صاحبه عن سداد ديونه، وحوّلته مدرسة ثانوية: مكتب عنبر.. وهو الآن تابع لمحافظة دمشق.
وقام يهود آخرون ببناء بيوت فخمة، كبيت الخواجة اسلامبولي، وبيت شمعايا، وبيت لزبونا.. إلخ. ويلاحظ المؤلف أنه كانت ليهود دمشق لَكْنَة خاصة في نطقهم العربية، وكثيرون منهم لم يكونوا يعرفون العبرية.
وفي القرن الثالث عشر كان اليهود رجالاً ونساء ملزمين بارتداء زي خاص ـ لم يكن زي المرأة اليهودية ليختلف عن زي المسلمة إلا في اللون، علماً أن الحجاب يشمل الجميع ـ وكان هذا وراء وضع بعضهم أنفسهم تحت حماية القناصل الأجانب، في القرن التاسع عشر خاصة، كي يعاملوا معاملة الرعايا الأجانب، في ارتداء الزيّ الأوروبي.
وكان بين المشكلات التي أزعجت الآخرين منهم، أنهم عملوا في جباية الأموال للولاة، وفي الصيرفة، حتى بات تجار دمشق اليهود في منتصف القرن التاسع عشر، من أغنى تجار المدينة على الإطلاق، وكان المعدل الوسطي لرأسمال كل تاجر منهم يتراوح بين 600 و700 ليرة ذهبية استرلينية، وكان بينهم تسعة تجار، رأسمال كل واحد منهم يتراوح بين مليون ومليون ونصف المليون من القروش. وكان تعاملهم مع انجلترا بشكل أساسي. وهكذا احتل أثرياء اليهود مكانتين، اقتصادية وسياسية، بارزتين في أوساط الدوائر الحاكمة في دمشق وحلب، وأصبح صيارفة اليهود يتحكمون في مالية دمشق ويتصرفون بها كما يشاءون، حتى ان أحدهم وهو سليمان فايصي، بات يسمى مجازاً: وزير المالية، وكان يسلّف الحكومة. وكان لليهود مصرف في حلب: (بنك صفرا)، وآخر في دمشق (بنك زلخة)، وكانوا يتشددون في تعاملهم المالي مع الأهالي، حتى ان أهالي دمشق رفعوا شكوى ضدهم إلى السلطان العثماني محمود الثاني ليبعد جورهم عليهم.
من جانب آخر، وبعيداً عن الصيارفة والتجار الكبار اليهود، فإن معظم يهود حلب عملوا في التجارة، في حين عمل يهود دمشق في المهن اليدوية، خاصة صناعة الأدوات النحاسية. ويلاحظ المؤلف ان معظم يهود حلب ـ وإن كان بعض أثريائهم عملوا بالصرافة ـ ينتمون إلى الطبقة المتوسطة من التجار والوسطاء.
يرى المؤلف عبده أن اليهود السوريين يعودون في أصولهم الى فلسطين، أو أولئك الذين خرجوا من الأندلس بعد خروج العرب منها نهائياً أواخر القرن الخامس عشر ـ أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس سلم مفاتيح غرناطة إلى الملكين الاسبانيين ايزابيل وفرديناند عام 1492م ـ ثم يضيف بعض التجار اليهود الإيطاليين الذين هاجروا إلى سورية، خاصة حلب، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهناك بعض من كبار التجار اليهود دخلوا الإسلام خلال ذلك.
وقد بدأ وضع اليهود يتحسن في الدولة العثمانية، فاعترف بوجودهم رسمياً، قبل صدور قانون الإصلاح الأول عام 1839، ففي عام 1838 عيّن افراهام هاليفي حاخاماً لاستانبول (القسطنطينية)، وبعد صدور القانون المذكور، وقد دعي: خطي شريف ـ عينت الدولة في كل مدينة تضم جالية يهودية حاخاماً تابعاً لحاخام استانبول: دمشق، القاهرة، بغداد، القدس، سالونيك، ازمير.. الخ، وهذا «ما أوجد مركزية قانونية في كل الطوائف اليهودية في الدولة، لم توجد منذ مئات السنين»، وكان وضع اليهود السوريين يدار بالشكل التالي: فلكل حارة في دمشق شيخها وإمامها، وهو صلة وصل بينها وبين السلطة الحاكمة في المدينة، وهكذا نجد شيخاً لحارة اليهود.
وتمتع اليهود السوريون في النصف الأول من القرن العشرين بوضع اجتماعي وسياسي ممتاز، فبموجب دستور عام 1930، كان يحق لكل طائفة يزيد عدد أفرادها على ستة آلاف شخص، أن تبعث بممثل عنها إلى المجلس النيابي، وهكذا كان لليهود ممثل منتخب. وفي أثناء الانتخابات النيابية، كان لهم احياناً مرشحان: واحد على قائمة الأحرار، وواحد على قائمة الحزب الوطني. ويذكر فضل عفاش في كتابه «مجلس الشعب في سورية: 1928 ـ 1988»، اسم النائب اليهودي يوسف لينادو عن مدينة دمشق في برلمان 1932، وقد تكرر دخوله منتخباً. ويذكر في المجلس النيابي المنتخب عام 1947، اسم النائب اليهودي عن دمشق وحيد مزراحي.
وبعيداً عن الصيرفة والأعمال التجارية وبعض المهن اليدوية، يلاحظ المؤلف أنه لم يكن لليهود السوريين في القرن العشرين ـ ونضيف: القرون السابقة ـ ذلك الوزن الذي وصل إليه المسيحيون من الناحية الفكرية والسياسية والثقافية، فلم نسمع عن أديب يهودي أو صحافي متميز